فرانشيسكو- رحمة ومحبة جسرًا للحوار بين الإسلام والمسيحية.

في مؤلف بسيط ولكنه غزير بالمعاني، انطلق البابا فرانشيسكو، الذي رحل عنا مؤخرًا، في رحلة استكشاف للعلاقة الوثيقة بين الإسلام والمسيحية، مستهلًا ذلك بعنوان كتابه الذي يحمل دلالات عميقة "اسم الله هو الرحمة". فالرحمة، في جوهرها، هي القيمة الأساسية للدين الإسلامي الحنيف، بينما المحبة هي الركن والعمود الفقري للعقيدة المسيحية السمحة.
لقد قدم البابا الرحمة كمفهوم شامل وواسع الأفق، يحتضن الاستيعاب المتبادل، والتعايش السلمي، وتقبل الآخر مهما اختلف. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل جعلها قضية قابلة للتطبيق، وخطة عمل واقعية يمكن للناس ترجمتها إلى أفعال ملموسة. إنها دعوة للغوص في أعماق المجتمعات، والارتقاء بالإنسان ليصبح رحيمًا حتى مع أولئك الذين يكن لهم مشاعر الكراهية، أو النفور، أو ينبذهم لأسباب شتى.
بهذه الرؤية الثاقبة، وصل فرانشيسكو إلى سدة البابوية، محملًا بتجربة حياتية فريدة، تمنحه مصداقية وأصالة لا تضاهى. تجسدت هذه التجربة في "لاهوت التحرير" بأمريكا اللاتينية الشاسعة، حيث يعتبر أحد أبرز رموزه. هذا النهج المسيحي الجديد قد أحدث تحولًا جذريًا في الغرب، إذ انتقل من التواطؤ الطويل الأمد مع السلطات الزمنية تحت مسمى "الحق الإلهي للملوك"، ومن الابتعاد عن الشأن العام مستندًا إلى مبدأ "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، إلى الانخراط الفعال في معالجة المشكلات الاجتماعية الملحة، والدفاع عن المظلومين والمهمشين، وضحايا الاستبداد السياسي بكل أشكاله.
لقد كان لتنوع خبرات فرانشيسكو الشخصية تأثير بالغ في تعميق رؤيته الإنسانية النبيلة. فهو الابن الأكبر بين خمسة أبناء، لعائلة هاجرت من إيطاليا فرارًا من أهوال الفاشية الظالمة. عمل في بداية حياته حارسًا في ملهى ليلي، ثم عامل نظافة، وبعدها عاملًا في مصنع، قبل أن يكمل دراسته في مجال الكيمياء. لم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل واصل تحصيله العلمي في الفلسفة والأدب وعلم النفس، واقترب من الناشطة السياسية إستير باليسترينو، التي قاومت بشراسة الحكم العسكري في الأرجنتين، وتعرضت للتعذيب الوحشي، ثم قتلت دون أن يعثر لها على أثر.
في شبابه، كان فرانشيسكو شغوفًا برقص التانجو، ومشجعًا متعصبًا لأحد الأندية الأرجنتينية المحلية لكرة القدم. كما خاض تجربة قاسية مع المرض المزمن، إثر نوبة التهاب حاد استدعت استئصال جزء من رئته. وبعد ذلك، عانى من آلام مزمنة في ركبته اليمنى، وصفها بأنها "موت للجسد".
حين اعتلى فرانشيسكو سدة البابوية، كان الحوار الحضاري بين الشرق والغرب يعاني من نواقص جمة، تتجسد في تداخل غير مبرر بين المسائل العقدية والفكرية، والاستقطاب السياسي الحاد، والسجال العقائدي والمذهبي العقيم، والاستسلام التام للصور النمطية المغلوطة والمتوارثة، الراسخة في أعماق التاريخ الاجتماعي والثقافي عن "الآخر". وقد أدى هذا الوضع إلى نشوب صراعات حادة بين القوى السياسية والاقتصادية المؤثرة في مختلف الحضارات، اتخذت شكل "صراع الحضارات"، متجاهلة حقيقة أن الحضارات بطبيعتها في حالة تفاعل مستمر، وتلاقح دائم.
علاوة على ذلك، كان الحوار الحضاري قاصرًا على النخب الثقافية والسياسية، وغلب عليه الخطاب الاستعلائي، الذي يفترض وجود أطراف أقوى وأكثر تحضرًا من الأطراف الأخرى المتحاورة معها.
والأخطر من ذلك، أن البابا السابق بنديكت، كان قد أعاد الكنيسة الكاثوليكية إلى الانخراط في المشروعات السياسية، التي تعتمد على تصورات تبتعد كثيرًا عن جوهر المسيحية القائم على السلام والمحبة، نظرًا لارتباط هذه التصورات بوحشية الرأسمالية، وتبني الغرب لفكرة "صراع الحضارات"، التي عبر عنها الأميركي صامويل هنتنغتون في كتابه الشهير، الذي كتب بمداد القوة المهيمنة على السياسة في الغرب، والتي تسعى إلى السيطرة على العالم المعاصر، حتى ولو بالقوة المادية الجبارة، عسكرية كانت أم اقتصادية.
في المقابل، رفع البابا فرانشيسكو شعارًا مدويًا "كفى حروبًا، كفى عنفًا!"، وظل متمسكًا بهذه الرؤية حتى أيامه الأخيرة. دليلًا على ذلك، ظهوره في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الماضي، أمام لوحة فنية من تصميم فنانين فلسطينيين، تحمل عنوان "ميلاد بيت لحم 2024″، تهدف إلى إثارة التعاطف مع أولئك الذين "يعانون من مأساة الحرب في الأرض المقدسة وبقية أنحاء العالم"، على حد تعبير البابا نفسه، الذي حافظ على علاقات طيبة مع أهل الشرق قاطبة، مسيحيين ومسلمين على حد سواء.
تجدر الإشارة إلى أن فرانشيسكو كان أول بابا يزور دولًا في شبه الجزيرة العربية، مهد الإسلام ومنطلق رسالته السمحة. وقد وقع وثيقة "الأخوة الإنسانية" مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، ولم يقتصر تواصله على أهل السنة، الذين يشكلون الأغلبية بين المسلمين، بل التقى أيضًا بقيادات من الطائفة الشيعية الكريمة في العراق عام 2021. وفي الوقت نفسه، استمر في الاهتمام بالمسيحيين العرب، الذين كان يعتبرهم "همزة الوصل بين الشرق والغرب"، والتعبير الأصدق والأعمق عن بيئة المسيحية الأولى. ولذا، فإن بقاءهم في أرضهم، بغض النظر عن مذاهبهم وطوائفهم، هو نعمة عظيمة لمسيحيي العالم أجمعين. ولم يكن هذا الشعور غريبًا على رجل تعاون مع طوائف الأنجليكان واللوثريين والميثوديين في الغرب.
هذه التوجهات القيمة هي التي وجهت "دبلوماسية الفاتيكان" خلال فترة بابوية فرانشيسكو، التي استندت إلى مبدأ أخلاقي راسخ، يقول: "إما نحن أخوة أو أعداء.. لا يوجد خيار ثالث". وقد أضفى هذا المبدأ انفتاحًا قويًا على الإسلام، تجاوز ما أقرته وثيقة "نوسترا أيتاتي" أي "في عصرنا"، التي تم بمقتضاها التوقف عن تكفير أتباع الديانات الأخرى، كما كان يحدث على مدار أكثر من ألفي عام.
أظهر فرانشيسكو إصرارًا كبيرًا على هذا التوجه، حين زار القاهرة عام 2017، تلبية لدعوة كريمة من شيخ الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، لحضور مؤتمر موسع ناقش قضايا التفاهم والحوار والمواطنة، ومواجهة التطرف والتعصب لدى بعض أتباع الأديان. وقد صلى من أجل أن يعود السلام والاستقرار إلى سوريا الحبيبة، بعد سنوات من المعاناة والحروب. ونُقل عنه قوله: "أصلي كي يعيش الشعب السوري في سلام وأمن على أرضه الحبيبة.. في البلاد التي عانت من سنوات كثيرة من الحرب". كما صلى من أجل أن تنتهي الحرب في لبنان وغزة، ودعا المجتمع الدولي إلى بذل قصارى جهده من أجل "إيقاف هذا التصعيد الرهيب وغير المقبول".
لقد أدان بشدة الغارة الجوية الإسرائيلية التي أودت بحياة سبعة أطفال من عائلة واحدة في شمال قطاع غزة، ووصفها بأنها "قاسية". وكان يتواصل باستمرار وبشكل شخصي ومباشر بالمسؤولين عن الطائفة المسيحية في غزة خلال الحرب الإسرائيلية. وقد زار بعد عام واحد من توليه البابوية فلسطين والأردن وإسرائيل، وجمع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، ونظيره الفلسطيني محمود عباس في صلاة مؤثرة من أجل السلام عام 2014.
على نفس المنوال، بذل جهدًا كبيرًا في طي صفحة العداء بين الولايات المتحدة وكوبا، وزار في عام 2023 جنوب السودان، وناشد القادة هناك لإنهاء الصراع الدائر، ودعا إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، واصفًا إياها بـ "الحرب العبثية والشرسة".
وبالتوازي مع السعي الحثيث إلى تحقيق التآخي مع أتباع الأديان الأخرى، وعلى رأسها الإسلام، لم يتخلّ البابا فرانشيسكو، المعروف بالزهد والتقشف، عن صورته كقديس فقير، منذ أن كان الكاردينال برغوليو في إحدى كنائس العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. ولحظة اختياره اسم فرانشيسكو، اقتداءً بالقديس فرانشيسكو الأسيزي، الذي تخلى عن ثروته الطائلة لصالح الفقراء والمساكين، وكان ينادي بالرفق بالحيوان.
طوال حياته المفعمة بالإيمان، ظل البابا فرانشيسكو يؤمن بأن الإنجيل يدعو إلى الوقوف بجانب المحرومين والمستضعفين. وقد رفض الجلوس على كرسي مطلي بالذهب، أو حمل صولجانات مرصعة بالجواهر الثمينة. قضى حياته يرتدي ثوبين بسيطين فقط، ولم يضع عليهما أي مجوهرات. عاش في شقة متواضعة بجانب الفاتيكان، وتخلى عن استخدام سيارات الليموزين الفارهة، وشارك الكرادلة في رحلاتهم بالحافلة، وغالبًا ما كان يختار السفر بالطائرة في الدرجة الاقتصادية. وكان دائمًا يقول: "آه، كم أتمنى أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء". كما دأب في عظاته المؤثرة على الدفاع بقوة عن العدالة الاجتماعية، وانتقد الحكومات التي تتقاعس عن الاهتمام بالفئات الأشد فقرًا في المجتمع.
كان البابا فرانشيسكو واعيًا تمامًا للسياقات التي تكرس الظلم، والتي تتمثل في نظره في التسلط والاستبداد، والتدين الفاسد، والظلم الاجتماعي المستشري، والانحياز المناطقي، والفتن المذهبية. لذا، نجده، وإلى جانب لقائه بالقيادات الشيعية المرموقة في العراق، يلتقي برأس الكنيسة الأرثوذكسية في العالم البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية بمصر، في شهر أبريل من عام 2017، لتقديم واجب العزاء في ضحايا التفجيرين الإرهابيين اللذين استهدفا كنيستين في شمال مصر. وفي كل هذه المواقف، كان منحازًا للإنسانية جمعاء، مدركًا أن القواسم المشتركة التي تجمع البشرية تفوق بكثير أسباب الفرقة والصراع.
وقد انعكست رؤيته الثاقبة، التي بناها بتأنٍ على أسس متينة من النص الديني والتفاعل المباشر مع الناس، على تصوره العميق لحقوق الإنسان، وعلى رأسها الحق الأصيل في الحياة. فقد رفض الفقر المدقع والإجهاض، واختزال دور المرأة إلى مجرد أداة للمتعة. ووصف المثلية بأنها "محاولة للنيل من تصميم الله".
وفي أيام جائحة كوفيد-19، دعا إلى توفير اللقاح للجميع دون تمييز أو استثناء، وجعل الكنيسة في خدمة الشعب، بعيدًا عن الكهنوت المنعزل. وقال في هذا الصدد: "علينا أن نحذر من مرض روحي يصيب الكنيسة عندما تنغلق على ذاتها. لو كان عليّ أن أختار بين كنيسة جريحة تخرج إلى العالم، وكنيسة مريضة منغلقة على ذاتها، لاخترت الأولى".
سيكون من حسن طالع العالم أن يسير البابا القادم على خطى البابا فرانشيسكو، ويواصل مسيرته النيرة. ويا حبذا لو أطلق حوارًا عالميًا تشارك فيه المؤسسات الدينية الكبرى بفعالية، وتتبنى قضايا جوهرية مثل الاستشراق المنصف، وتهذيب وتنظيم علاقات السوق، واحترام الثقافات الفرعية المتنوعة، باعتبارها طريقًا آمنًا إلى تنوع إنساني خلاق، وإنقاذ الديمقراطية من النزعات الفاشية المتنامية، وتقليم أظفار العولمة الشريرة، ومواجهة العنف المنظم بكافة أشكاله، وتوظيف العلم في خدمة الإنسانية جمعاء. لكن المؤشرات الأولية حتى الآن، تشير إلى أن هذا لا يعدو كونه مجرد أمنيات.